صلابة في الحرب واكتئاب لاحق لها، لماذا؟

تخيل أنك وصديقك كنتما تمشيان وأنتما تتجادلان بوجهتي نظر مختلفتين علا صوتكما وتقطبت حاجباكما، لكن فجأة واجهتما كلباً نابحاً يريد الهجوم عليكما، كيف ستكون ردة فعلكما؟ في الغالب ستتوقفان عن الجدال والخلاف، حتى أنكما ستتعاونان لتتعاملا مع هذا الموقف المخيف. عيناكما جاحظة، قلبكما ينبض بسرعة ليضخ أكبر كمية من الدم، رجلاكما مشدودتان مستعدتان للركض، تشجعان بعضكما، أحدكما يناول الآخر حجرة والثاني يمد عصا للأول وهكذا. عندما تتخلصا من الكلب وينتهي هذا الخوف قد تشعرا بأن رجليكما متعبة لم تعد قادرة على التحمل، وأن قلبكما أُرهِق، وأن عقلكما بدأ بإدراك هول ما واجهتموه وإعادة معايشته لحظة بلحظة!. كيف سيكون حالكما لو لم تجدا مكاناً لترتاحا فيه وكأس ماء يبل ريقكما، بل وخلافكما عاد ليبرز ويشتد ربما!

الوجه العصبي من القصة: 

هذه القصة تعكس تفسيرات نفسية واجتماعية وعصبية لأوقات الأزمات. حيث يستجيب عقلنا وجسمنا بالغالب بإحدى استجابتين للحفاظ على البقاء؛ الهروب أو المواجهة (fight or flight). حيث يعمل ما يسمى بالجهاز العصبي السمبثاوي (الودي) المسؤول عن استجابات الجسم السريعة والتعامل مع القلق والتوتر ليضمن ردات الفعل المناسبة التي تنقذ الحياة. تفعيل هذا الجهاز مهم ومفيد، لكن في حال امتد التعرض لهذه الصدمات المتكررة وطالت الأزمة واستمر تفعّل الجهاز العصبي السمبثاوي الذي يتعامل مع القلق والتوتر، فإنه يتحول من استراتيجية إلى نمط حياة. كما أنه جرّاء العمل المفرط للجهاز العصبي المسؤول عن حالات الأزمات والمواقف الضاغطة فإن أعراضاً نفسية وجسدية تظهر لتزيد المعاناة أيضاً.

من أبرز الأمثلة على حالات يعمل فيها ذاك الجهاز العصبي عملاً مفرطاً هي الحرب. حيث تميل معدلات الاكتئاب إلى الارتفاع بسبب التعرض المباشر للصدمات والخوف وعدم اليقين والخسارة. ومع ذلك، قد يُظهِر بعض الأفراد استجابة "وضع البقاء" -survival mode-، حيث يركزون على البقاء الفوري بدلاً من معالجة المشاعر، مما قد يؤخر ظهور الأعراض النفسية الأخرى لوقت انتهاء الأزمة -كما حدث في الخيال معك ومع صديقك لا قدّر الله-.

الوجه الاجتماعي والنفسي من القصة

أحد تفسيرات الصلابة والقوة النفسية التي تظهر وقت الحرب والأزمات هو أن التعاضد أوالتماسك الاجتماعي يزداد. حيث وجد في العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية أنه في وقت الحرب تبرز المشاعر الجماعية المشتركة، فيشعر الجميع أنهم في قارب واحد وينتعش شعور الانتماء الوطني وتستعيد الروح الجماعية حيويتها. حتى أن عالم الاجتماع الشهير دوركهايم وضع تحليلاُ يفسر انخفاض حالات الانتحار أثناء الحروب مقارنة بالوقت السابق للحرب وحتى اللاحق بأن درجة التكامل والتعاضد المجتمعي تزداد ولا ريب أن الإيمان الديني واليقين بأقدار الله والتسليم لحكمته عامل مهم في جعل الإنسان أكثر صلابة وأقدر على التكيف. "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" 

في حين أنه عند انتهاء الحرب، قد تختلف عدة عوامل تجعل من الأعراض النفسية أكثر انتشاراً. حيث يصبح التعبير عن المشاعر متاحاً وتتوفر للأفراد المساحة والوقت وتتاح الفرصة لإدراك الصدمة التي مروا بها. وتزداد هذه المشاعر صعوبة وتتعمق درجة الصدمة في حال كانت الآثار المادية للحرب بالغة القسوة.  كما أن بروز الخلافات الاجتماعية وعودتها إلى السطح وفقدان روابط الدعم الاجتماعي يجعل الصدمة أشد وطأة.

بعد الحرب، كيف نلملم الجراح ونحقق النمو النفسي؟ 

بناء على ماسبق، لو تساءلنا ما الذي يجعل الأعراض النفسية للصدمة عند انتهاء الحرب أكثر احتمالاً؟ وما الذي يجعل الصدمة أقل وطأة؟ وكيف يمكن الإبقاء على الصلابة النفسية بل وتحقيق النمو النفسي في فترة ما بعد الحرب؟

  • أولاً من المهم أن يتم تدعيم التماسك المجتمعي وبناء شبكة علاقات اجتماعية داعمة بدلاً من أن تكون مستنزِفة. وهنا من المهم أن نقف لنحدد ماذا يعني استنزاف العلاقات؟. فالعلاقات الاجتماعية مطلب ضروري للأفراد من عدة نواحي؛ نفسية ودينية واجتماعية وحتى مهنية. لكنّ الفترة الأخيرة شهدت تقليل أهمية العلاقات والتنفير منها أحياناً من باب استثقال أعبائها وغلبة سلبياتها على إيجابياتها وبدافع الحفاظ على الحرية الفردية. كما أن تغوّل اللغة النفسية المرضية في أذهان الناس وتصوراتهم جعل عتبة الحساسية الاجتماعية لديهم منخفضة. وبالتالي صارت العديد من التصرفات الاجتماعية الطبيعية تصرفات إشكالية منفرة. فالنصح صار تدخل، والطلب صار تقييد، والواجب صار عبء. وأضحى الناس أكثر ميلاً للتصنيفات مثل علاقة سامة، مؤذية، نرجسية وإلخ. مما يقطع الطريق على الإصلاح وعلى الاستفادة من العلاقة وجانبها الداعم. وإعادة النسيج المجتمعي المتماسك يقع على عاتق المؤسسات والأفراد. فمن حيث المؤسسات من المهم أن تعمل على تسليط الضوء ورفع الوعي حول مفاهيم مثل العنصرية والتفرقة والاستعلاء والاستثناء والطبقية الاجتماعية والاقتصادية. كذلك أن تعمل على توزيع الموارد بشكل عادل وتقليل الفجوة بين الطبقات المجتمعية من خلال إشراكها جميعاً في عملية التجانس وتقليص الفارق ، كي لا تشعر إحدى الطبقات بالاستعلاء والاستثناء ولا تشعر الأخرى بشعور الضحية والاستحقاق. أيضاً فإن الحملات التطوعية الواعية والشاملة تتيح فرصة مجتمعية للنهوض بالمجتمع ونفسية لتجاوز بعض الأزمات الداخلية. فقد وجد أن ليس فقط تلقي الدعم الاجتماعي يعين على التكيف ويحسن من مستويات الصحة النفسية، بل أيضاً فإن تقديم الدعم يعين على ذلك. كيف يكون هذا؟  
    أولاً فإن العمل التطوعي يصرف ويشتت انتباه الفرد وتركيزه عن الضغوطات. ثانياً فإنه يزيد إحساسه بالمعنى والغاية ويُشعره بكفاءته الذاتية. أما بيولوجياً، يُفرَز هرمون الاوكسيتوسن oxytocin  وهو هرمون الحب والعطف الذي يخفض مشاعر القلق والضيق ويقلل من ردود الفعل الفسيولوجية والنفسية للتوتر. وعصبياً فإن المسارات العصبية الخاصة بالدوبامين تتفعل فيتحفز نظام المكافأة في الدماغ (reward circuitry) مما يعطي شعوراً بالتعزيز. كما أن الجهاز العصبي المسمى اللاودي أو الباراسمبثاوي parasympathetic    يتفعل، وهو الجهاز المسؤول عن حالة الراحة في الجسم بعكس الجهاز السمبثاوي أو الودي الذي يتم تفعيله  في حالات التوتر sympathetic nervous system.
  • ثالثاً فإن العمل على تعزيز اليقين والإيمان الديني من العوامل المهمة في تعزيز الصلابة النفسية والتعامل مع مشاعر الصدمة وما يليها. فالتثبيت العقدي وعدم تغييب التفسيرات الإلهية والحكمة الربانية التي لا تتعارض مع التحليلات السياسية والنظرة الاستراتيجية للأحداث يمنح الإنسان نظرة أخرى متجاوزة تخرجه من ضيق المادية وتنقذه من شعور العبثية. وقد تبين أن أن وجود التدين والروحانية والتفسيرالديني للحدث يقلل من شدة تكون اضطراب ما بعد الصدمة أو المعروف في المصطلح النفسي ب PTSD، بل وأحياناً له دور في إحداث نمو إيجابي في الشخصية.  
  • رابعاً، فإن محاولة تخفيف الضغوطات اليومية -تأمين السكن المأكل والمشرب...- لها كبير الأثر في التكيف والتأقلم مع الأوضاع التالية للحرب. فلا يمكن الإنكار أن الواقع يفرض نفسه وأن الضغوطات المعيشية تأسر الإنسان في همها. فلا يكفي إيمان غيبي ولا تفكير إيجابي ولا دعم نفسي لتحقيق التعافي الشخصي، بل إن التمكين الاقتصادي من أهم العوامل الواقعية التي تفتح آفاق النفس وتطلق عنانها لتحقيق أمور أخرى .   
    في الختام، نحمد الله أن من علينا بإخماد نار هذه الحرب الطاحنة في غزة. ونسأله تعالى أن يهون عليهم مصابهم ويعوّضهم الجنة. ونرجو منه أن يلهمنا سبل نصرتهم ويبصرنا الطرق لنكون سبباً في دمل جراحهم وإعمار نفوسهم وبيوتهم كما كانوا سبباً في إحياء الأمل في قلوبنا وتثبيت الإيمان في نفوسنا.

بقلم الأستاذة مودة العقاد