يا دكتورة أنا أعاني أني لا أعرف ما أريد ...يصعب علي أخذ قرار.. أؤجل المهام التي عليّ رغم أنها مهمة وأقضي وقتي على الجوال وفي أعمال ليست ذات قيمة... يبدو أنني كسولة وصديقاتي لسن كذلك !! أو عاجز ولكني حقيقة ذكي !! أو ربما شخصيتي ليست متزنة ، أو أني لا أعرف أن أخطط مع أني قرأت كتب عن كيف أخطط لحياتي وأرتب أولوياتي ..
في النتيجة أنا غير طبيعي ومكتئب من نفسي وأشعر بالإحباط .. لماذا أنا هكذا !! من أنا أصلاً !!طبعا يا دكتورة أنا ذهبت إلى طبيب نفسي ومختص فأرشدني إلى خطوات عملية لاتخاذ القرارات ، وكيف أخطط لنفسي ، وماذا علي أن أفعل كي أكون ناجح. لكن للأسف ، فأنا محبط من نفسي ولا جدوى مني...
الدكتورة : تعال نعود معا للوراء قليلا ونتحدث عما كان يجري.. أخبرني عن كذا ..وعن ..بدأ سرد القصة فكان منها بعض اللقطات : * كان يعمل بجد في المدرسة كي ينال الرضا من والديه وخوفا من التأنيب.. * كان عليها أن ترفع من شأن أهلها وتنقذهم بتفوقها الأكاديمي كي يخرجوا من طينة الفقر أو طينة العشيرة أو المنطقة ،أو ذاك التصنيف الطبقي..* كان عليه أن يلبس ما يُشترى له ، وينفذ ما يقال له ... دون مشاغبة ولا اعتراض حتى لا يناله غضب الكبار كما كان يناله الأخ الأكبر الذي كانوا يسمونه ذاك المتمرد الشقي.* كان عليها أن تتجاوز غضبها وألمها من التفرقة التي تتلقاها من المحيط لأنها الأقل حظا من أختها في الجمال، وتنغمس في خيالات ممتعة أو في الرسم أو الموسيقا الصاخبة أو حتى الدراسة ....* كان عليه أن يكون حمامة سلام وودّ ذاك الطفل المطيع، فلا اعتراض ، ولا مشاكل يفتعلها ولا خرق للقوانين، ولا خروج عن توقعات الوالدين ... حتى يضمن سلامة والديه ويخفف عنهما من الضغوط والمشاكل الزوجية والاقتصادية التي كانوا يواجهونها ، فلا داعي أن يوجع لهما رأسهما ، بل عليه أن يطبطب عليهما ...في الخلاصة : هذا الطفل الذي هو ذاك الرجل الآن وتلك السيدة الآن هو ذاته ذاك الطفل الصغير المستبعد عن نفسه والذي انسلخ عن ذاته الحقيقية الأصلية كي يمشي في سكة رُسمت له مسبقا من قبل الكبار ، ومن فوقهم ثقافة الكبار ، ومن فوقهم المجتمع ومن فوقه القمم التي يصعب وصفها. هذا الطفل لم يكن آمنا له أن يعرف ذاته الأصلية ولا أن يعبر عن ذاته الحقيقية خوفا من الرفض أو النبذ أو "البهدلة أو الزورة" ، وسعيا للحصول على الرضى واللقب الملائكي " طفل مطيع ، حباب، مساير" . أخيرا فقد فاز باللقب الملائكي ولكنه خسر جوهوه الإنساني الحقيقي من الداخل ، وهو الآن وهي الآن في حلته الحالية الضائع عن نفسه ..يهرب من مهامه، يعجز عن التخطيط واتخاذ قرارات ، يصعب عليه أن يستمتع بحياته ...لم يكن ذنبه ما وصل إليه ، ولكنه دفع ثمن مصادرة حرية ذاك الطفل الذي خُلق ليعبر عن ذاته ، ولتظهر إمكاناته الإنسانية الحقيقية ، دفع ثمن حريته كي ينال رضا من رقبته في يدهم ، وكان عليه أن (يمشي الحيط الحيط ويقول يارب الستر)قالها عمر من قبل حينما فهم جوهر الدين " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) وكم هي الأزمات التي يعيشها الفرد في حاضره لأن حريته تم مصادرتها من أمه وأبيه ومن فوقهم الثقافة التربوية ، ومن فوقها الوضع الاقتصادي ، ومن فوقها من ظنوا أن بيدهم مقاليد كل شيء.